قديما قيل "من راقب الناس مات همًا"... والهم هو الدور الوحيد المشترك ما بين الإعلامي والطبيب في موريتانيا، حيث يحاول الطبيب رمي سماعته ونظاراته الطبية وتناول القلم خدمة ل "الهم السادي"، ناسيا أن "ظل السلطان سريع الزوال"، فيقوم بكيل صنوف المدائح له لتمت مكافأته بمنصب أسمر، يأتي عليه في بضع سنين... نفس الدور يقوم به الإعلامي فتراه يستضيف الأطباء ليزرع في أفواههم العبرات الرنانة والتي تثلج صدر سيده الممسوس، بعفاريت سعر الواحد منها يساوي سيارة V8.
كنت قد قررت التوقف عن الكتابة النقدية لكي لا أزيد صاع الانسان الموريتاني، أو -ربما- كما أخبرني أحد المختبئين خلف أقنعة "الدقة" الفيسبوكية، لإدراكي أني فاشل على الصعيد الكتابي وأن حبري قد نفد فيما لا طائل من وراءه... وربما بسبب موجة من الاحباط والاحساس بمازوخية هذا الشعب الطيب... المهم أني كنت قد قررت التوقف عن الكتابة لسبب ما، والاكتفاء بالقراءة لأنها راحة للذهن من التشتت وللقلب من التشرذم، وللوقت من الضياع... قررت مطالعة "الأخبار" اليومية وكل ما جد من صراع الأهرام والجمهورية، فأنا لا أخفي عشقي للسياسة، رغم عدم انتمائي لأي حزب أو تيار سياسي، تلك السياسة التي أسرت قلب أفلاطون فكتب فيها بل وتصور جمهوريته المثلى لدولة يكون فيها الفلاسفة ورجال الأدب والفكر هم رأسها المحرك، كما كتب في علم السياسة المأسور أيضا أرسطو، وكذلك كتب المفكرون العرب كابن رشد، الفارابي، ابن خلدون... إلخ، كما خصص الإيطالي ميكافيللي كتابه «الأمير» لهذا العلم، باحثاً في مواصفات السياسي الناجح، محدداً السياسة والمقومات السياسية التي تفضي بها إلى الفلاح أو الإخفاق... لكن أين أنا من هؤلاء الجبابرة!
كل هؤلاء رغم احترامي لعطائهم العلمي والانساني، لكني أشك في أن باستطاعة أي منهم وضع تحديد وضوابط لحالة موريتانيا السياسية، والتي يوجد فيها رئيس غاية في الشره المادي السوء الإداري، وساسة يطالبونه بالرحيل ولا يريدونها ثورة بل عرض أزياء لشعبية يريدون مقابلها من الامتيازات... كلامي هذا وأنا أكتبه أدرك تماما أنه سيغضب أشخاصا أحبهم، لكنها الحقيقة المُرة. فالنظام يلوح بالانتخابات فتلوح له المنسقية بضرورة دكار جديد، أو ربما باماكو جديد، من يدري! فالخاسر الأول من غباء ساستنا هو هذا الشعب الناعم. أما الكاسب الأكيد فهو سيد هذا الزمن الرديء، الذي يملك خيوط دمى العرائس، العسكرية منها والمدنية.
لازلت حتى اليوم أحتفظ في حقيبة سفري ببعض الصحف القديمة منذ أواخر الفترة الطائعية، أُقوم بإخراجها عندما أكون في سفر بعيدا كي أقرأ فيها آخر ما جد من أخبار موريتانيا... هذا الكلام أضحك أحد الأصدقاء عندما أخبرته بالأمر، لكن ضحكته انقلبت إلى دهشة عندما أخرجت له تلك الصحف الصفراء والتي ترافقني في جل أسفاري، أعيد قراءة المقالات والمبادرات وأجواء التوتر واللأمن... كي أعرف إلى أين وصلت مرحلة هذا الحاكم العسكري، -سبحان الله- إننا ندور في حلقة واحدة سياسيا وثقافيا وأمنيا... لهذا أراه صعبا تصنيف البلد على المقاييس العالمية المشتركة، حيث الشبهة في المجتمع الغربي، العنصري، الكافر، الملحد... –كما يصفهم البعض- كفيلة بتراجع وإسقاط الحكام والقادة السياسيون، مرغمين على تقديم استقالاتهم. أما نحن في "الجمهورية" ففضائح ساستنا وقادتنا وزعماؤنا وسماسرتنا، وقبل كل شيء رئيسنا، قد أعجزت كل من "الأخبار والأهرام والجمهورية" عن حصرها، أو ضحدها، ومع ذلك لا شيء تغير، بل على العكس تماما: زادت الأمور سوءا وأضحت كلمة القتل والمخدرات وفضائح الاختلاسات، والطعنات المباغتة، السياسية منها والجنائية... من الكلمات العادية في قاموسنا اليومي نحتسيها مع كؤوس شاينا الصباحي.
إنه من المعروف أن السياسة كالبحر لها مد وجزر، وهذا أمر جيد فالبعض يرى أنه أمر طفولي أن نطالب بقيام ثورة في موريتانيا –وهذا من حقه ونتفهمه- لكن ما لم نفهمه في سياستنا الوطنية هي رؤية البعض وعقلانيته لمبدئ مطالبة مادر مارد لأكثر من عامين بالرحيل، دون وضع خطة أو آلية لتلك المطالبة، فلا حياة للمندى، ولا بديل عن خطابات ساحة ابن عباس.
إن أكثر ما أخشاه على وطني ليست السياسة ولا أهلها أو نتائجها بل وفاة القيم الدينية والمنظومة الأخلاقية التي كانت تكبل السياسة ومن يسومون هذا الشعب بإصلاحاتهم الهلامية... فاليوم أصبحنا نقرأ تقارير عن طرد الأمهات واستدعاء الشرطة لتنفيذ ذلك وعن امتناع بعض الأسر عن إرسال بناتهن إلى معلمي القرآن خشية الاغتصاب وعن عمليات الانتحار وتقارير مخيفة عن ظاهرتي الطلاق والعنوسة...
من المسؤول عن كل هذا؟! هذا هو السؤال الذي يجب على كل واحد منا مهما كان موقفه أو حزبه السياسي أن يطرحه على نفسه في هذه اللحظات الختامية من هذه التجربة الفاشلة!
تقول الحكمة: "حين تضطرب مقاييس الرجولة يحكم النساء الرجال، وحين تضطرب مقاييس البطولة يحكم اللصوص الشجعان، وحين تضطرب مقاييس الفضيلة يحكم الأوباش الكرام"... فقيموا أنفسكم وقوموا أفعالكم واتركوا لنا مساحة لسد ثقوب جيوب آلاف الفقراء المهترئة.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire